افترقنا قبل ان نلتقي ... ألقيت عليه السلام كعادتي مع كل الناس.. ولكنه رد بحرارة وبسمة عريضة وبشاشة غير معهودة من شخص لا أعرفه.
جلست في الكرسي المقابل له في ساحة انتظار محطة القطار.. وشعرت أنني أعرفه..
فهذه الملامح ليست غريبة عني.. حتى هذا الصوت سمعته من قبل.
هممت أن أتعرف عليه أو أن أسأله عن الاسم.. ولكني شعرت بالحرج.. وقلت في نفسي:
لو كانت بينكما علاقة من قبل لكان أظهر ذلك.. مثلاً بندائك باسمك أو السؤال عنك وعن أحوالك
نعم هذا صحيح.. لكن لماذا هذه الحرارة والبشاشة في رد السلام.
قالت نفسي:
ربما لأنه ملتحياً مثلك ويراك قريباً منه في حب الدين والعمل بالسنة.
قلت نعم هذا يحدث كثيراً مع كل الإخوة.
كنت أغيب وأسترق النظر إلى قسمات وجهه لعلني أتذكره.. فما زلت أعاند نفسي أنني أعرفه..
وكنت كلما نظرت إليه ألحظ منه أنه ينظر نحوي.. لكنني كنت لا أستطيع أن أديم النظر إليه لجلوس أسرته بجواره.
قطع تفكيري صوت النداء بالمحطة.. يقول:
القطار المتجه من الإسكندرية إلى أسوان على رصيف رقم عشرة.
تلفت حولي فعلمت أنه لا بد لي من عبور النفق حتى أقف على الرصيف التالي.
قمت سريعاً وبنفس طريقة الحضور ألقيت السلام منصرفاً من الساحة.
فرد السلام بنفس الأسلوب وبنفس الحرارة.. وشعرت وكأنه يريد أن يقوم خلفي يريد أن يودعني.. لكنه لم يفعل.
كل هذه التصرفات زادت من حيرتي وفعَّلت من شدة تفكيري.
نزلت درجات النفق وأنا أعود بذاكرتي سنوات للوراء أُقلب في دفتر الأيام عن هذه الملامح.
وفجأة.. وجدتني أضرب بيدي على رأسي أصيح بصوت لفت أنظار المارة في النفق قائلاً:
يااااااااااه
نعم.. إنه أبو خالد.. لا لا.. بل خالد.. لقد تذكرت تماماً الآن
إنه الشيخ خالد.. وكانت له كنية مشهور بها مرتبطة باسمه إنها "أبو سليمان"..
فقد كان يكثر من ذكر الصحابي الجليل خالد بن الوليد ويعتز بتشابه الأسماء.. وتكنى بكنيته أبي سليمان.
وسرت أردد قائلاً:
كيف؟.. كيف؟
كيف أنسى خالداً.. وكيف ينساني؟!!!
لقد أقمنا عاماً كاملاً في غرفة واحدة كان ينام بجواري..
ولطالما تعاونا في مراجعة القرآن الكريم واشتركنا في أعمال الحياة من طهي الطعام وغسل الملابس وتنظيم الفراش.
بل وصلت بيننا العلاقة إلى درجة التعارف الأسري.. فكان يسأل عن أهلي وعن كل فرد منهم..
كيف حال كل واحد من الأسرة.. المريض منهم.. والذي لم يتزوج أو يشرع في الزواج.. وكنت أبادله نفس الشعور.
وكم تمنينا أن تدوم تلك العلاقة خارج الأسوار.. رغم بعد المسافة بيننا.. فكان يمازحني قائلاً:
الحل الوحيد هو النسب.. فإما تزوجني أو أزوجك
فقلت: نفعل إن شاء الله.
شعرت أن النفق الذي أمر فيه والذي لا يتجاوز الأمتار طولاً.. هو أطول من ذلك بكثير..
بل هو طول الخمسة عشر عاماً عمر افتراقنا عن بعضنا.
وسرت أردد:
آه يا دنيا.. ماذا فعلت بنا؟!!!
وهل هذا هو حالك مع كل الناس؟
أم نحن الذين قصرنا في التواصل.. أم ماذا؟
عاتبت نفسي بشدة ولمتها على عدم الوفاء لدرجة النسيان.
لكن نفسي ردت لومي بلوم:
وهو أيضاً لماذا لم يسأل عنك؟.
ولماذا لم يحاول؟
لماذا.. ولماذا؟
ثم قلت:
كيف نسيت هذا الذي اقتسم يوماً معي الجمرة والتمرة.. وتبادلنا هدايانا وملابسنا بل وخواطرنا.. فيبدو أنني نسيت عهوداً كثيرة.
صعدت درجات النفق لأعلي سرعة متناهية حتى أجد فرصة للسلام عليه.. ومحاولة الحديث معه ولو من بعيد.. فهذا أقل القليل.
وصلت إلى الجانب الآخر ومشيت سريعاً حتى وصلت إلى الجهة المقابلة له تماماً..
ووقفت نحوه مبتسماً ففهمني.. ويبدو أنه تذكرني أيضاَ كما تذكرته.. فقد هبًّ واقفاً.
رفعت يدي ملوحاً بالسلام.. وما أن هممت بقولي:
كيف حالك يا أبا سليمان؟
حتى تبدد صوتي مع دخول القطار المحطة.. ويبدو أنه القطار الذي كان ينتظره صديقي..
فقد حال بيني وبينه القطار.. وحاولت جاهداً أن أراه من بين النوافذ فلم أستطع..
فقد كان الزحام شديداً ويبدو أنه كان مشغولاً مع أسرته.. ووقفت شارداً في حال الدنيا.
تحرك القطار وعيني لا تفارقه.. وقلبي يتمزق بين فرحة اللقاء وحزن الفراق.
وقبل أن يخرج القطار من المحطة.. لاحظت أبا سليمان يخرج رأسه بصعوبة من نافذة القطار..
وأخذ يلوح لي بيده مودعاً إياي.. مشيراً بيده إلى الخلف.. يعني أننا كنا سوياً مع بعضنا من زمن.
ضحكت بشدة ورأيت ضحكته.. دون أن نسمع الأصوات.
مع غياب ملامح القطار عن ناظري.. تضاءلت ضحكتي وتصاعدت مرارتي.. فما أن تذكر أحدنا الآخر حتى
افترقنا قبل أن نلتقي